وكانت منطقة العلا قد شهدت أثناء ازدهار حضارة دادان، إنشاء شبكة كبيرة من القنوات المائية التي اندثرت فيما عدا هاتين القناتين اللتين كانتا من عوامل الاستقرار والاستيطان بالعلا وبخاصة قناة تدعل، وقد نجح المستوطنون بالعلا لاحقاً في إحياء عدد آخر من القنوات المندثرة ما أدى إلى زيادة المساحات المزروعة بأشجار النخيل خاصة، وبأشجار الليمون والتين والأعناب وغيرها، فيما تركت مساحات خاصة لزراعة الحبوب بأنواعها. أما المحاصيل الزراعية الأخرى كالبصل والثوم وأنواع أخرى من الخضراوات والورقيات المطبوخة وغير المطبوخة والبطيخ والشمام ونحو ذلك. فكانت لها مساحات مخصصة في بساتين النخيل والأشجار، وهكذا أصبحت العلا جاذبة لكثير من الناس للعيش بها بشكل دائم، وعلى الرغم من أنها كانت تقع آنذاك تحت الحكم العثماني إلا أنها كانت سلطة شبه اسمية، ولهذا فإن السكان نظموا بأنفسهم حياتهم الاجتماعية والإدارية والزراعية، وكان رؤساء العشائر، ويسمونها القبائل وعددها 15 قبيلة، مسؤولين عن تنفيذ هذه الأنظمة، وكان للبلدة قاض شرعي واحد، يختارونه عادةً بالانتخاب وغالباً ما يكون من قبيلة الأحامدة التي عرفت إلى يومنا هذا بعشيرة القضاة.
ونشير هنا باختصار إلى ما رواه الإنجليزي داوتي في بداية عام 1877 حيث يقول: (ظهرت أزقة المدينة نظيفة جداً.. وأمام كل بيت توجد دكة من الطين بنيت على الطراز العربي يجلس عليها أصحاب البيت وغيرهم من المارة للتحدث والتدخين). وخلال الربع الثاني من القرن العشرين وبعد أن زاد عدد الدكاكين خارج أسوار البلدة، صاروا يجتمعون بعد صلاة العصر أيضاً عند الدكاكين وحولها، ويجلس بعضهم على الرمل ويلعبون (الدومة)، وهي مشابهة للشطرنج، فيلعب اثنان ويتفرج الآخرون أو يتحدثون، وقد يحل أحدهم محل اللاعب الخاسر، وعند أذان المغرب يذهبون للصلاة ثم إلى بيوتهم لتناول طعام العشاء، وهو الوجبة الرئيسة في العلا. ولم تكن النساء بمعزل عن الأنس ولقاء بعضهن بعضاً، ففي ليالي الشتاء الطويلة، وبعد الانتهاء من تناول العشاء، جرت العادة أن تقوم ربة المنزل في بعض الأحيان مع أطفالها وبناتها بزيارة بيت أحد الأقرباء أو الأصدقاء لقضاء بعض الوقت وتعرف هذه الزيارة بالمسيار. *مؤرخ الهيئة الملكية لمحافظة العلا
أما الزراعة التي هي عصب الحياة الاقتصادية في البلدة، فقد ظلت نظمها وقوانينها المتعارف عليها على حالها كما هي بعد أن أقرها مجلس الشورى، واعتمدها نائب الملك في الحجاز الأمير فيصل، وقد أنشئت هيئة للأشراف على تنفيذ هذه الأنظمة والقوانين العرفية باسم «هيئة العرف والزراعة»، يختار الأهالي أعضاءها بالانتخاب كل ثلاث سنوات، وينتخب المجلس الإداري أحد أعضائها رئيساً لها. وفي ظل هذه الأنظمة واستتباب الأمن والنظام تم إحياء عدد آخر من القنوات القديمة حتى بلغ عددها 41 قناة، وقد أدى تحسن المعيشة في العلا في تلك الفترة إلى جذب عدد من الناس من شتى الأنحاء للقدوم إليها والعيش فيها، فاستقر بها عدد من الأفراد والأسر من ضبا والوجه وينبع على ساحل البحر الأحمر، ومن تهامة في بلاد غامد ومن المدينة وتيماء وحائل والقصيم والمنطقة الوسطى، بل وهناك عوائل وأفراد قدموا إليها من الشام والعراق وفلسطين والمغرب، وبقوا بالعلا عدداً من السنين حتى تحسن الوضع الاقتصادي في المملكة، فرحل معظمهم وبقي قليل منهم حتى اليوم. وإلى جانب النشاط الزراعي كان هناك النشاط التجاري بطبيعة الحال، الذي اضطلع به على وجه خاص القادمون الجدد، أما النشاط الصناعي فلم يكن له وجود في العلا فيما عدا القليل من الصناعات التقليدية، ونشير إلى أهمها وهي صناعة الخوص الذي يصنع منه كثير من أثاث المنزل كالحصير وسفر الطعام والمراوح اليدوية والسلال والزنابيل وأوعية التمور والحبوب وبعض أدوات المزارعين والبنائين.